Oscar News

أخبار العالم

سوريا: تجاذبات وإعادة رسم للخارطة الجيوسياسية

الاتفاق التاريخي بين قسد والحكومة السورية، بإشراف أمريكي ليس مجرد حدث عابر، وإنما علامة على تحوّلات استراتيجية أعمق تُعيد تعريف دور القوى الدولية والإقليمية حول مصير سوريا.

أوسكار نيوز_ كرم خليل**

في خضمّ المتغيرات العاصفة التي تشهدها الساحة السورية، تبرز مؤخرًا تطوراتٌ مفصليةٌ قد تُعيد تشكيل ملامح الصراع الدائر منذ أكثر من عقد.

فالاتفاق الذي جرى بين قوات “قسد” والحكومة السورية، تحت إشرافٍ أمريكيٍ مباشرٍ بقيادة الجنرال “مايكل كوريلا” قائد القوات الأمريكية في شمال سوريا، ليس مجرد حدث عابر في سياق المفاوضات المحلية، بل هو علامة على تحوّلات استراتيجية أعمق تُعيد تعريف دور القوى الدولية والإقليمية حول مصير سوريا.

هذه الخطوة، التي تضمّنت دعوة من قيادة “قسد” للحكومة السورية للاجتماع تحت ضمانات أمريكية، تفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول طبيعة الدور الأمريكي الجديد في وحدة سوريا، وإمكانية تحويل هذا الدور من لاعب خارجي إلى شريك استراتيجي يساهم في إعادة التوازن الإقليمي، ويحدّ من تغوّل النفوذ الإسرائيلي والإيراني والتركي الذي أنهك الجسم السوري.

السياق التاريخي للاتفاق: بين الإرث الاستعماري والحسابات الجيوسياسية المعاصرة 

لم تكن سوريا يومًا بعيدةً عن صراع القوى الكبرى، بدءًا من اتفاقيات سايكس بيكو التي قسّمت المشرق العربي، وصولًا إلى الحرب الباردة التي جعلت من دمشق ساحةً لتصفية الحسابات بين المعسكرين الشرقي والغربي.

اليوم، يعيد التاريخ نفسه بأدوات مختلفة، حيث تتحرك الولايات المتحدة بخطى حذرة لتعزيز وجودها في شمال سوريا عبر دعم تحالفات محلية مثل “قسد”.

لكنّ المفارقة تكمن في تحوّل هذه الاستراتيجية من دعم الكيانات الانفصالية إلى العمل كوسيط بينها وبين الحكومة المركزية.

هذا التحوّل لم يأت من فراغ، بل هو نتاج تراكمات أمنية وسياسية فرضتها المتغيّرات الميدانية.

لعلّ أبرزها: تصاعد التهديدات التركية تجاه المناطق الكردية، والتوسع الإيراني المطّرد في العمق السوري، والوجود الإسرائيلي المكثّف في الجنوب الذي تحوّل إلى حزام أمني يُهدّد السيادة السورية.

في هذا الإطار، يكتسب اجتماع قيادة “قسد” مع الحكومة السورية أهمية رمزية وعملية.

إن من جهة اعتراف غير مباشر من الولايات المتحدة بمركزية الدولة السورية في أي تسويةٍ مستقبلية، أو من جهة محاولة احتواء التدخلات الإقليمية عبر إشراك دمشق في معادلة جديدة تقلّل من اعتمادها على طهران وأنقرة.

ولا يخفى أن الضمانات الأمريكية التي رافقت الدعوة للاجتماع تُشير إلى رغبة واشنطن في لعب دور الحامي للعملية التفاوضية، مما يمنحها نفوذًا تفاوضيًا أكبر في تحديد مخرجات الحل السياسي.

الدور الأمريكي بين التنظير والممارسة: أي إيجابية؟ 

على الرغم من التاريخ المُلتبس للولايات المتحدة في سوريا، والذي اتسم بدعم متقلّب للمعارضة وتبني أجندات طائفية أحيانًا، إلا أنّ المرحلة الراهنة تُظهر تحولًا في الرؤية الأمريكية نحو أولوية “وحدة سوريا” كضامن وحيد لاستقرار المنطقة.

هذا التحوّل لم يعد مجرد شعارات دبلوماسية، بل تجسّد في خطوات ملموسة، كدعم المفاوضات بين الأطراف السورية المتناحرة، والضغط على القوى الإقليمية لتخفيف تدخّلها.

الجنرال “مايكل كوريلا” مهندس هذه الاستراتيجية، يسعى إلى تحويل الوجود العسكري الأمريكي في شمال سوريا من “قوة احتلال” إلى “وسيط ضامن” للاستقرار، عبر توظيف النفوذ الأمريكي لدفع الأطراف السورية نحو تسويات تمنع انهيار الدولة تمامًا.

وهذا يتوافق مع مصالح واشنطن الاستراتيجية في منع سوريا من التحوّل إلى بؤرة جديدة للإرهاب، أو ساحة مفتوحة للنفوذ الروسي والصيني المتنامي.

لكنّ السؤال الأكثر إلحاحًا:

هل يُمكن للدور الأمريكي أن يكون “إيجابيًا” حقًا في ظلّ إرثٍ من التدخّلات المدمّرة؟ الإجابة ربما تكمن في طبيعة المرحلة الحالية، حيث أصبحت الولايات المتحدة تدرك أن فرض الهيمنة عبر الفوضى لم يعد مجديًا، وأن تعزيز الدولة السورية قد يكون الطريق الوحيد لمواجهة النفوذ الإيراني الذي بات يهدد المصالح الأمريكية نفسها في الخليج.

سوريا والعلاقات الأمريكية: نحو شراكة استراتيجية ضد الهيمنة الإقليمية 

إن الدعوة إلى فتح علاقات استراتيجية بين دمشق وواشنطن، ليست ضربًا من الخيال السياسي، بل هي ضرورة حتمية في ظلّ الواقع الجيوسياسي المُعقّد.

فسوريا، التي أنهكها الصراع، لم تعد قادرةً على تحمّل تكاليف الاستمرار في سياسة المحاور المتصلّبة.

من هنا، فإنّ التعاون مع الولايات المتحدة قد يُوفّر لها غطاءً دوليًا يُعيد لها جزءًا من سيادتها المفقودة، ويُقلّل من اعتمادها على حلفاء إقليميين أثبتوا أن ولاءهم لمصالحهم الذاتية يتقدّم على مصالح الشعب السوري.

أول فوائد هذه الشراكة تتمثّل في كسر الحلقة المفرغة التي صنعتها الهيمنة الإيرانية. فطهران، التي حوّلت سوريا إلى جسرٍ لتصدير الميليشيات، لم تقدم لدمشق سوى المزيد من العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية.

أما التعاون مع الأمريكيين، فقد يفتح أبوابًا للانخراط في الاقتصاد العالمي، وإعادة الإعمار عبر استثمارات دولية، شرط أن تقترن هذه الخطوة بإصلاحاتٍ سياسيةٍ داخليةٍ تُعيد الاعتبار لشرعية الدولة.

ثانيًا، يُمكن للعلاقات الأمريكية السورية أن تكون أداةً لمواجهة التمدّد التركي في الشمال السوري، والذي تجاوز في بعض المناطق حدود “المجال الحيوي” المزعوم إلى احتلال صريح.

فأنقرة، التي تخشى من أي تقاربٍ سوري أمريكي، قد تضطر إلى مراجعة حساباتها إذا وجدت أن واشنطن باتت حريصة على حفظ كيان الدولة السورية.

ثالثًا، في الجنوب السوري، حيث تتعاظم السطوة الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة النفوذ الإيراني، يُمكن للوجود الأمريكي أن يُعيد تعريف قواعد الاشتباك.

فإسرائيل، التي اعتادت ضرب الأراضي السورية دون ردعٍ دولي، قد تجد نفسها مضطرةً للحدّ من انتهاكاتها إذا شعرت أن واشنطن لم تعد تتغاضى عن اختراقات السيادة السورية.

التوازن الإقليمي: كيف يُعيد التقارب السوري الأمريكي رسم خريطة النفوذ؟ 

لا يقتصر تأثير التقارب المحتمل بين دمشق وواشنطن على الجانب الثنائي، بل يمتدّ ليُحدث زلزالًا في موازين القوى الإقليمية.

إيران، التي تعتمد على سوريا كحلقة وصل مع حزب الله في لبنان، ستفقد جزءًا مهمًا من ورقتها التفاوضية في حال تحوّل النظام السوري نحو الاعتدال وفتح قنوات مع الغرب.

هذا التحوّل قد يُضعف قبضة طهران على الملف اللبناني والعراقي أيضًا، مما يُعيد تشكيل تحالفات إقليمية بأكملها.

وفي إسرائيل، سيثير التقارب السوري الأمريكي قلقًا ملموسًا، فالكيان الصهيوني اعتاد على التعامل مع سوريا كعدوّ منهك لا يُشكّل تهديدًا، لكنّ تحسّن العلاقات مع واشنطن قد يمنح دمشق دفعة سياسية تُعيدها إلى الواجهة الإقليمية، خاصةً إذا اقترن ذلك بدعم أمريكي لاستعادة الجولان كجزء من تسوية شاملة.

المخاطر والتحديات: هل يُمكن تجاوز الإرث الدموي 

رغم المكاسب النظرية للتقارب السوري الأمريكي، إلا أن الطريق لن يكون مفروشًا بالورود.

فأولى العقبات تكمن في عمق الشكوك التاريخية بين الطرفين، فالنظام السوري لا ينس دور واشنطن في دعم بعض الفصائل المعارضة المسلحة، والأخيرة لا تزال تُطالب بمحاسبة النظام البائد عن جرائم الحرب.

كما أن التدخل الروسي المباشر في سوريا يُشكّل عائقا إضافيا، إذ إن موسكو لن تتخلى بسهولة عن قاعدة حميميم التي تُعتبر بوابة وجودها في المتوسط.

أما التحدي الأكبر، فيكمن في إقناع الشارع السوري والعربي بأن الولايات المتحدة لم تعد “الشيطان الأكبر”، بل شريكٌ في بناء السلام.

هذا يتطلّب خطوات جريئة من واشنطن، كرفع العقوبات الاقتصادية الجائرة، ودعم مشاريع إعادة الإعمار، والضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على الجنوب السوري.

 نحو سوريا جديدة بموازين إقليمية مختلفة 

الاتفاق بين “قسد” والحكومة السورية، قد يكون البذرة الأولى لشراكة سورية أمريكية تعيد الاعتبار لسياسة القوة الناعمة في الإقليم.

فسوريا، التي عانت من كونها ساحة لصراع الآخرين، قد تجد في هذه الشراكة فرصتها الذهبية للخروج من عنق الزجاجة، شرط أن تتحوّل الضمانات الأمريكية إلى التزامات فعلية باحترام السيادة والوحدة.

في المقابل، على الولايات المتحدة أن تدرك أن اللعبة لم تعد كما كانت قبل عشر سنوات.

فالسوريون، رغم احتياجهم للدعم الدولي، لن يقبلوا بديلًا عن كرامتهم الوطنية. لذلك، فإن أي تعاون مستقبلي يجب أن يقوم على أساس المساواة والشفافية، لا على منطق الهيمنة القديم.

عندها فقط يمكن لسوريا أن تتحوّل من دولة منهكة إلى لاعب إقليمي فاعل في قلب المشرق العربي.

____________________________________________________________________________________________

**كرم خليل: مسؤول الشؤون العسكرية لدى “استانداب أمريكا” للشرق الأوسط.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي أوسكار نيوز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.