أوسكار نيوز_ نور عباس
في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، برزت اتفاقية تاريخية بين حكومة دمشق المنضوية تحت مظلة الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (ق.س.د)، والتي تعد حاضنة للأطراف الكردية والعربية والسريانية في شمال شرق البلاد. جاءت هذه الاتفاقية تتويجا لجهود دبلوماسية وعسكرية متواصلة، تستند إلى بنود واضحة تهدف إلى إعادة ترسيم خريطة التعايش الوطني، وتعزيز الوحدة السورية على أسس تكافئية تحترم التنوع العرقي والديني والثقافي. ولا تقتصر أهمية هذه الخطوة على الجانب السياسي فحسب، بل تمتد إلى أبعاد إنسانية وأخلاقية وعسكرية، تجسد رؤية متكاملة لسوريا المستقبل، القائمة على توازنات طائفية وعرقية متينة.
من أبرز ما تضمنته الاتفاقية تأكيدها على ضمان حقوق جميع السوريين في المشاركة السياسية والتمثيل داخل مؤسسات الدولة، بناء على الكفاءة دون أي تمييز يعيق اندماجهم بسبب خلفياتهم الدينية أو العرفية. هذا البند يشكل نقلة نوعية في التعامل مع ملف التعددية السورية، خاصة في ظل سيطرة خطاب إقصائي طال عقودا من الزمن. فتحقيق التوازن بين الإسلام المحافظ والمعتدل يتطلب إفساح المجال أمام كافة المكونات لتمثيل نفسها، وهو ما يحقق نوعا من “التكافؤ الوظيفي” داخل أجهزة الدولة، بحيث لا يطغى صوت على آخر، ولا تهمش فئة لصالح أخرى. وفي هذا السياق، يبرز دور ق.س.د كشريك فاعل في حكومة دمشق الجديدة، حيث يسهم اندماجها في وزارة الدفاع السورية في تعزيز الشرعية المؤسسية، وتوحيد الجبهة العسكرية لمواجهة التهديدات التي تستهدف أمن البلاد ووحدتها، كما نص البند السادس من الاتفاقية.
أما البند الثاني، الذي يعترف بالمجتمع الكردي كمكون أصيل في الدولة السورية، فيرسي سابقة دستورية تنهي عقودا من التهميش الممنهج. فاعتراف الدولة بحقوق الأكراد الدستورية، بما في ذلك المواطنة الكاملة والمشاركة في صنع القرار، يشكل نموذجا يحتذى به لبقية المكونات، لا سيما الطائفة الدرزية، التي تعاني بدورها من إشكاليات في التمثيل والحماية. فإذا كان الأكراد قد نجحوا -من خلال ق.س.د- في تحويل وجودهم العسكري والسياسي إلى ركيزة للتفاوض، فإن على الدروز أن يستلهموا هذه التجربة، ويسرعوا في بناء تحالفات تضمن تمثيلهم في المشهد الوطني، دون الانجرار إلى خطاب الانفصال أو الاستقطاب الطائفي، الذي حذرت منه الاتفاقية صراحة في بنودها اللاحقة.
وفي إطار تعزيز الوحدة الوطنية، أقرت الاتفاقية ضرورة دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا، بما فيها المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز، ضمن إدارة الدولة السورية. هذا الدمج لا يعكس فقط رغبة في إعادة هيكلة السلطة المركزية، بل يبرز أيضا الرؤية الاستراتيجية لـق.س.د، التي اختارت -رغم قوتها الميدانية- الانخراط في مسار سياسي يضمن لها حضورا دستوريا، بدل التعويل على الحلول الانفصالية. وهو درس بالغ الأهمية للدروز، الذين يمكنهم تحويل مناطق نفوذهم إلى نقاط قوة تفاوضية، شريطة أن يتبنوا نهجا واقعيا يعترف بمركزية الدولة، مع السعي لحفظ حقوقهم عبر القنوات الدستورية.
ولا يمكن إغفال البعد الإنساني في هذه المعادلة، حيث شددت الاتفاقية على ضمان عودة كافة المهجرين السوريين إلى قراهم ومدنهم، وتأمين حمايتهم من قبل الدولة. هنا تبرز “الضرورة الأخلاقية” لوجود ق.س.د، التي لعبت دورا محوريا في حماية المدنيين خلال سنوات الحرب، خاصة في المناطق التي تعرضت لهجمات التنظيمات المتطرفة. فدمجها في مؤسسات الدولة يعزز الثقة بين المكونات، ويرسي ثقافة تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، بعيدا عن الامتيازات الطائفية التي غذت الصراعات في الماضي.
أما على الصعيد السياسي، فإن الاتفاقية تمثل اعترافا ضمنيا من حكومة دمشق بفشل النموذج الأحادي في إدارة الدولة، ما دفعها إلى تبني نهج أكثر مرونة، يستوعب التحالفات الإقليمية والدولية التي تدعمها ق.س.د. فوجود الأخيرة في الحكومة الجديدة ليس مجرد تفصيل إداري، بل هو إقرار بضرورة إشراك القوى التي تملك قاعدة شعبية وجيشا منظما في عملية إعادة الإعمار.
لكن التحدي الأكبر يتمثل في تحقيق “التوازن” المطلوب بين الإسلام المحافظ الذي تجسده حكومة دمشق، وبين التوجه العلماني المعتدل الذي تتبناه ق.س.د. فالاتفاقية، وإن نجحت في وضع إطار عام للتعاون، إلا أنها تترك التفاصيل العالقة -كالهوية الدينية للدولة، وحقوق المرأة، وطبيعة القوانين الشخصية- لمناقشات لاحقة. وهذا يستدعي حكمة بالغة من الطرفين، تجنبا للاصطدام باختلافات قد تعيد إنتاج الأزمات. فسوريا، التي مزقتها الحرب، لم تعد تتحمل صراعات جديدة على الخصوصيات، ما يفرض تبني نموذج “علماني توافقي”، يحافظ على الهوية العربية الإسلامية للدولة، مع ضمان حقوق الأقليات في ممارسة ثقافاتها بحرية.
ختاما، فإن الاتفاقية بين حكومة دمشق وق.س.د تقدم درسا مصيريا لكافة المكونات السورية، ولا سيما الطائفة الدرزية، التي تواجه اليوم مفترق طرق: إما أن تسير على النهج التقليدي المنغلق، الذي يعمق عزلتها ويجعلها عرضة للاستقطابات الخارجية، أو أن تستلهم تجربة ق.س.د في بناء تحالفات وطنية تكرس حضورها في الدولة، دون التخلي عن خصوصيتها. فكما نجح الأكراد -من خلال القوة الناعمة والعسكرية- في فرض نفسهم كشريك لا غنى عنه، فإن على الدروز أن يتحلوا بالمرونة الكافية ليكونوا جزءا من “سوريا الشاملة”، التي تعبر عن كافة أبنائها. فالدولة التكافئية التي تنشدها الاتفاقية ليست مجرد شعار، بل هي مشروع وطني يتطلب نضجا سياسيا، وإرادة جماعية، تدرك أن قوة سوريا تكمن في تنوعها، لا في انصهارها القسري في بوتقة أحادية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي أوسكار نيوز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
More Stories
سوريا: تجاذبات وإعادة رسم للخارطة الجيوسياسية
بين التهميش والتفاوض: أي حماية دولية للعلويين في الساحل السوري؟